الثلاثاء، 13 مايو 2008

على الكورنيش



لكم أعشق الاسكندرية في الشتاء....أمقتها صيفا و هذا حق مشروع للجميع حيث الحر والزحام والمصطافين من كل صوب و قاع المجتمع حين يطفو فيصير سطحا....لكن في الشتاء الأمر يختلف....الاسكندرية في الشتاء تشعر بأنها ملك لك وحدك...تفتح ذراعيها لاستقبالك...تبتسم لك وتتجمل من أجلك...لكن أشد ما أعشقه في الاسكندرية شتاءا هو السير ليلا وحيدا على الكورنيش...أعشق التأمل وأهيم بالشرود وأتيم بالوحدة والصفاء الروحي....كانت الساعة تجاوزت العاشرة بقليل...كنت أسير منفردا على الكورنيش الساحر...في هذا الوقت من العام لا تجد الكثيرين في هذا المكان...الجو شديد البرودة لكني لا أهتم و أضم ياقة معطفي طلبا للدفء ....حينما يجتمع البرد و الضوء الخافت مع أصوات أمواج البحر المتلاطمة مع قليل من العناصر البشرية المبعثرة في كل صوب أشعر أن الكون قد تجمل و أن الزمان قد جرد أدواته ورسم لنا لوحة رائعة...لوحة اسمها الشجن....هكذا أحب السير وحيدا في هذا الوقت....أتأمل هذا و أحدث ذاك....هنا رأيت رجلا عجوزا أعتقد أنه تجاوز السبعين من العمر...كان مدثرا بمعطف رث قديم....ذهبت و جلست إلى جواره...قررت أن أتحدث معه في اي شئ....كبار السن دائما يحبوا الحديث في السياسة و يمزجوا بينها وبين واقع حياتهم المرير...قررت أن العب دور المثقف و أحدثه بلغة ما أقرأ...الناس دائما ما تنبهر بمن يتشدق بأغرب الألفاظ أمامهم....تحدث عن اللاوعي المتناهي المنبثق من الوجدان الجمعي و علاقته بارتفاع الأسعار و ستجدهم يصفقون لك ويمتدحوا عبقريتك...هكذا تجدني أتحدث مع العجوز في سياسة الحكم الحالي و أدمج حديثي ببعض قراءاتي....لكن هيهات....قد أبهرني الرجل فأسكت لساني....تفكير عقلاني و وعي منظم و آراء منطقية لم أرها في عتاة المثقفين ممن عرفت....هذا الرجل لا يؤمن بثقافة الكتب إنما بثقافة الحياة...تجاربك هي معلمك الأفضل فمنها و تعلم...هذا كان رأيه والذي عليه و أسير إلى الآن....كان حزينا ولكنه لم يفصح عن سبب حزنه...لكن من وراء حزنه كان يملك ابتسامة ودودة تشعر معها بالأمان...رغم قصر المدة التي جالسته فيها إلا انني أحببته حقا....حييته و تركته و واصلت جولتي...رأيت مجموعة من الشباب يمزحون و يتضاحكون بينهم شابا يحمل جيتارا يعزف عليه و يغني...عزفه ممتاز و صوته لا بأس به أبدا....هو واحد من أصحاب تلك المواهب التي ضل الحظ طريقه إليها فلم تستثمر وستندثر يوما....على الرغم من ضحكهم و غنائهم لكن الحزن كان مخيما على جلستهم جليا في عيونهم....واصلت تسكعي فرأيت فتاة ماجنة صاخبة....منظرها يدل على مهنتها دون إفصاح...نظرت في عينيها و نظرت في عيني...عيناها حزينة فعلا...شعرت بعينيها الجميلتين تقول:"لا تظن إنني سعيدة بذلك...لكنها الحاجة...نعم أعلم أنه لا شئ يبرر أبدا أن أغضب ربي و أن أفرط في أغلى شئ يملكه المرء و هو شرفه...لكن صدقني...أنت لا تعلم ما يقع على كاهلي من أعباء....أعباء أم أرملة مريضة وأخوة صغار جياع...انها الحاجة المجنونة التي تدفعك إلى تحطيم قيود المجتمع و تخطي حواجز التقاليد و هدم أسوار العفة...صدقني إنها الحاجة"....شعرت بدمعة حقيقية تترقرق في عينيها...لكنها لم تلبث أن ركبت في سيارة فارهة مع شاب وانطلقا إلى حيث أجهل....استكملت مسيرتي فشاهدت متسولة عجوز....أشفقت عليها و ساعدتها بما من الله عليها به...رغم طعنها في السن إلا أن عينيها كانت كعيون الأطفال...تلك العيون التي تحمل الحزن و الفرح في آن واحد....لا يمكن أن ترى هذا التعبير إلا في عين طفل...وفي ذهني دارت عجلة الأفكار...إمرأة عجوز دفعتها الحاجة إلى التسول, وفتاة شابة دفعتها الحاجة إلى الانحطاط....في قرارة نفسي لا أسامح أيا منهما...لكن ما الذي يصل بالفرد إلى مثل هذه الحالة؟لماذا يصل الفقر إلى أبشع صورة ممكنة بهذا القدر؟سؤال لا أملك إجابته...هكذا واصلت طريقي...رأيت شابا و فتاة يجلسان سويا و يتهامسان....واضح إنهما حبيبان...تلك النظرة الحالمة للغد و البسمة التي تشع املا تؤكد إنهما عاشقان....من المفترض أن أسعد لمرآهم لكني على العكس أصابني الهم....لا أعلم ما الذي طرأ علي؟...صرت ذو نظرة تشاؤميه بشكل غريب....لم أعد استمتع بشئ.... إذا ذهبت في رحلة تجدني حزينا لأنها يوما ستنتهي....إذا أكلت طعاما أحزن لأنه قريبا سينفذ....لم أعد استمتع باللحظة التي أعيشها....صرت اتوقع الأسوأ....الحب ينتهي بالفراق و النسيان...السعادة آخرها الحزن....والحياة نهايتها الموت....أكد لي أفكاري مشهد فتاة جميلة تجلس وحيدة تبكي و تكتب شيئا ما....عساها فارقت من تحب أو أي شئ آخر...المهم أنها حزينة....الحزن....الحزن هو السمة الغالبة في كل من تراهم على كورنيش الاسكندرية شتاءا....تركت كل ما رأيت ووقفت أتأمل البحر من بعيد....لا أعلم لماذا يعشق الناس البحر؟!!...البحر لا يذكرك سوى بآلامك و احزانك و جروحك و فراقك...مع اصوات صفير هواءه المندفع تشعر بصرخات روحك تدوي....مع ضربات أمواجه المتلاحقة لصخوره تشعر بطعنات قلبك تدمي...البحر بالنسبة للبشر ليس سوى مرآة لأسوأ ما مر بهم في حياتهم من جروح و أحزان....لا أحب البحر لكني أعشق الكورنيش....على الكورنيش ليلا تجد مجموعات و عناصر مختلفة من البشر لا يجمع بينهم سوى أحزان الأمس و مخاوف الغد...بالنسبة لي لا وجود لشئ اسمه الحاضر....الحاضر هو اللحظة التي نعيشها الآن فقط...اللحظة المنصرمة هي من الماضي و اللحظة القادمة هي المستقبل...
كورنيش الاسكندرية ليلا....حيث يجتمع الفرح و الحزن...حيث يلتقي الحب والجرح....حيث يتقابل النجاح و الفشل...حيث تصطدم الأحلام و الآمال بمخاوف الغد...
كورنيش الاسكندرية ليلا....حيث يعبر المرء عن أفراحه و حيث يشكو احزانه....
كورنيش الاسكندرية ليلا....حيث يتذكر المرء من يحب و يخفق قلبه بحبه وتدمي روحه من جرحه....
كورنيش الاسكندرية ليلا....حيث اعشق أن أسير وحيدا....

هناك 9 تعليقات:

ســمـــر احمد يقول...

رحلة تأملية فى احوال البشر ... صور توالت امام عينى رسمتها ريشة بارعة

مودتى و ارق امنياتى

prince4ever يقول...

متشكر جدا جدا يا سمر على رأيك الجميل ده...أنا بجد سعيد جدا انك شرفتي مدونتي ويا ريت تشرفيني دايما...وبجد تعليقك ينم عن ثقافتك و تفكيرك المميز...متشكر جدا كمان مره...ولك تحياتي..

Unknown يقول...

تصويرك اكتر من رائع والله

بس المشكلة انانا من اسكندرية وحاسس بكل كلمة كتبتها بل اكتر من احساس فهو تأمل فى المدينة التى احبتتها

نعتبرها دعوة سياحية :)

جزاك الله كل خير

prince4ever يقول...

متشكر جدا يا ابو السيد على تشريفك ليا ورايك الجميل ده...و يا برنس ده شرف ليا اني اكلم عن اسكندريه و ناسها الحلوين اللي زيك يا معلم...تحياتي ليك ولكل الاسكندرانيه ويا ريت تشرفني دايما

دكتور بهــدوء يقول...

رامي انت معانا وبلساننا كلنا نعتذر
انا والله بلغت اللي بيدعوا انك معانا و بصراحه انت اكتر من رائع يا رامي بجد الاسلوب الجديد ده مش متعودين عليه ونشرف ان انت معانا اول اجتماع للبلوجرز الزقزوقيين تاني هتكون ان شاء الله الاول فيه
انت حد كتاباته هايله بجد
تحياتي
:)
انا بقيت زبون هنا ع فكره
ولا ايه؟؟؟؟




تلميح اللهي يسترك شيل التأكيد بتاع الرد ده

GiGi world يقول...

انا اعشق الاسكندريه
ميرسي على البوست الجميل

prince4ever يقول...

إلى دكتور بهدوء....ايه يا أبو جمال ده انت حبيبي يا عم...يا باشا شرف ليا انك بس تفتكرني...ويا باشا اجتماع بلوج الزقزوقيين هو اللي خسرني مش انا اللي خسرته...هههههه...شويه تواضع...بس انا بستغرب...انت يا بني مش من ميت غمر...امال زقزوقيين ايه...ههههههه...شرف لينا يا برنس انك تشرفني على بلوجي و تعليقك ده تاج على راسي من فوق....تعليق محترم و عسل زيك يابو جمال...بس انت مش زبون هنا على فكره...انت يا باشا صاحب مكان...وتشرفني فاي وقت يا برنس ومتشكرين على زيارتك...تحياتي

prince4ever يقول...

إلى جيجي...ميرسي على زيارتك الجميله وتعلليقك اللطيف...واتمنى تشرفيني دايما...نورتيني

prince4ever يقول...

اه يا ابو جمال...نسيت أقولك..انا شلت كلمة التاكيد يا عم...اه والنعمه...اي خدمه يا معلم...أشطات